قصر السّيّد فكري / بقلم فادي زهران

#فادي_زهران

⁦✍️⁩ فادي زهران

( قصر السّيّد فكري .. الجزء الثاني و الأخير )

سأخبرك بمكان ينال  .. هذه هي العبارة الّتي تفوّه بها ذلك الرّجل صاحب اللّحية البيضاء عندما أتى إلى جاد و كشف كلّ شيء ..

بات وجه جاد كمَن رأى شبحاً طوال الوقت ! .. شارد الذهن دائماً .. لا يتحدّث مع أحد .. لَم يعد يهتم بمظهره ..  أصبحت شهيّته للأكل ضعيفة جداً .. أضحت رغبته في الحياة تكاد تكون معدومة .. كان يشعر بالذّنب لأنه هو الذي اصطحب ينال معه إلى القصر .. كان يذهب إلى العمل حتى يحاول نسيان الحادثة .. كانت تعابير وجهه تتبدّل بسرعة .. كان يبحث كثيراً بين أوراق مكتبه عن أرقام هواتف أخرى لينال كان قد حفظها عنده .. لعله يجد شيئاً .. بات يقضي معظم أوقات يومه خارج البيت .. يسير كالمجنون في الطرقات .. و يتساءل :  أين أنت الآن يا ينال ؟! هل أنت في خطر ؟! هل أصابك مكروه ؟! هل أنت جائع ؟!

ذهب مراراً و تكراراً إلى بيت ينال .. لعلّه يجد أحداً .. لكن الباب لم يَكن يُفتح له عندما يطرقه .. لا أحد يجيبه .. محاولة وراء الأخرى لعلّ أحداً يسمعه .. لكن العمارة التي يسكن فيها ينال دائمة الهدوء .. كأنّها خاوية .. كأنّها فارغة من السكان .. فيعود جاد سيراً على قدميه لعلّه يجد أحداً يدلّه .. و كان كلّما رأى أحدا في الطريق سأله عن ينال .. ليردّ عليه أنّه لا يعرفه و لم يسمع ب اسمه من قبل .. حتى أنّه سَمع أن مبنى الصّحيفة التي كان يعمل فيها ينال قد احترق .. زاد الخوف عنده ..  توقّف جاد عن الذّهاب إلى عمله ..  و نتيجة لذلك أخبره مديره أنه تمّ الاستغناء عن خدماته ..  ليبقى وحيداً بلا عمل .. حتى صاحب البيت الذي يقيم فيه جاد طلب منه أن يترك البيت لأنه لم يسدّد ما عليه من الإيجار منذ عدّة أشهر .. ليصبح جاد مشرداً بلا مأوى أو عمل .. كان جاد دائم الزيارة لذلك القصر.. فقد كانت معظم المرات التي يزور فيها القصر من فترة الصباح حتى قبل الغروب بقليل .. كان يتنقل بين مداخل القصر و مخارجه .. كان يتمدد على مقاعد الحديقة .. كان يتمنى لو أن ينال يفاجئه و يسعده بخروجه من ذلك القصر المشؤوم .. لكن دون فائدة .. حتى أن جاد تطوّرت به الأحوال لأن يغفو و ينام في القصر .. لعلّه يحلم بصديقه ينال يخبره بمكانه ..

في إحدى المرات قبل اقتراب غروب الشمس بقليل بينما جاد يغطّ في النوم داخل إحدى غرف قصر السيد فكري .. إذ برجل في الستينات من عمره يرتدي نظارات سوداء قديمة   يوقظه : أنت .. أنت استيقظ هيّا ..  عندها استيقظ جاد بسرعة ..  و كانت حالته كأنه في أحلام اليقظة .. ظنّ أن ينال قد عاد .. مَنْ ؟  أهذا أنت يا ينال ؟! هكذا قال جاد بصوت فيه بحّة و الدّهشة على محيّاه ..

ردّ الرّجل : من هو ينال ؟ أنا لست ينال .. أنا حارس هذا القصر .. و قد كنت مريضاً في بيتي ..  أخبِرني أنت من تكون ؟ و لماذا كنت نائماً هنا ؟  و كيف تجرّأت على القدوم إلى هذا القصر ؟! عندها أخبره جاد بالقصة كاملة .. ظهر على وجه ذلك الرجل أنّه لم يصدق شيئاً مما قاله جاد .. و بعدها طلب منه أن يترك هذا المكان .. و أن لا يعود اليه أبداً ..  عندها سأله جاد : من الذي عيّنك حارساً للقصر ؟!  ليردّ الحارس : كنت أعمل لدى السيّد فكري .. و كان كريماً جداً معي .. و بقيت عنده فترة طويلة حتى توفي نتيجة احتراق القصر .. و عندما كبرت في السن .. قررت أن أعود لحراسة القصر ك نوع من رد الجميل .. حتى بعد احتراق القصر و تحولّه إلى خرابة مليئة بالرماد .. ...... كانت رائحة الاحتراق تنبعث من ذلك الرجل .. و كان يقول أن الجو حار جداً في هذه المنطقة .. ف ينزل يده الى بركة السّباحة و كلما  سكب الماء على وجهه و جسمه يخرج دخان أسود من جسده ..

غادر جاد المكان و هو يفكر بكلّ كلمة أخبره بها ذلك الرجل .. كان التفكير يسيطر على معظم وقت جاد .. و بعدها قرّر جاد أن يعود هذه اللّيلة إلى القصر لكنّه حرص أن لا يراه ذلك الحارس .. وصل إلى القصر .. فتح البوابة بهدوء شديد .. سار في الحديقة حتى وصل إلى باب القصر .. أراد أن يفتح الباب .. ليشعر بيد تلمس كتفه من الخلف .. عندها ذعر كثيراً .. و ما إن التفت حتى يجد ذلك الحارس .. و كان الحارس غاضباً جداً .. ألم أقل لك لا تعود إلى هذا المكان ؟   كان لدي إحساس بأنك ستعود .. هكذا قال الحارس ..  أجابه جاد بأنه لن يكلّ و لن يملّ حتى يجد صديقه حتى لو قام  الحارس بقتله .. عندها ظهرت ملامح الحزن و الشفقة على وجه الحارس .. و قال : تعال معي لنبحث سوياً عن صديقك ..  فتح الحارس باب القصر و كان جاد يتبعه ..  شعر جاد بحرارة كبيرة داخل القصر .. حتى أنه كان يشمّ رائحة شواء منتشرة في المكان .. استمرا في السّير في أحد الممرّات الطويلة .. أخرج جاد إحدى قطع القماش ليمسح عرقه الذي تصبّب .. بعدها ذابت القطعة و أصبحت رماداً و كادت  أن تحرق حرارتها يده .. وصلا إلى باب قاعة كان مكتوب عليها قاعة الاحتفالات ترحب بالزوار الكرام .. دفع الحارس الباب .. دخلا إلى القاعة .. ليرى جاد ما لم يتوقعه .. حيث كانت القاعة تضجّ بالأشخاص من مختلف الأجناس .. كانت الضحكات تعمّ المكان .. كانت السّجائر بأفخم أنواعها .. كانت النّساء و الرّجال بأرقى ملابس ..  أثناء اكتشاف جاد للمكان لَمَح ينال ينظر إليه و هو يبتسم  و كان يتحدّث مع أحد الأشخاص .. عندها فرح كثيراً و ركض نحوه .. لكن المكان كان مزدحماً و كان هناك مجموعة أشخاص قد حالوا بينه و بين وصوله إلى ينال .. و ما إن استطاع جاد أن يمرّ .. حتى اختفى ينال .. بعدها صرخ بصوت حزين  مرتفع : ينال .. يا يناال .. أين ذهبت يا صديقي ؟!  عندها سمع بصوت ياتي من خلفه : جااد ! .. أهلا و مرحبا بك في قصري .. و أخيراً أتيت ..  عندها التفت جاد ليجد السيد فكري أمامه !!   أصابه الجمود و صُعق و أصيب بالذهول و قال : السّيد فكري !  هل هذا أنت حقاً ؟! كيف ذلك ؟! لقد قرأت أنك ميّت منذ فترة طويلة ..    لم يهتم السيد فكري بما قاله له جاد .. و قال له : لا عليك .. فأنا شخصية عامة غنيّة و قد تعوّدت على  الإشاعات و الأخبار الكاذبة التي يقولونها عني .. أنا حيّ و سأبقى حيّاً إلى الأبد في قصري الجميل .. أنظر إلى هذه الأجواء  .. أنظر إلى روعة هذا الطقس الدافئ في قصري .. كان جاد يذوب ك الشمعة من شدّة الحرارة .. و لكنّه تمالك نفسه .. و طلب رؤية ينال .. عندها أخبره السيد فكري أن ينال بات واحداً من  الأغنياء .. لديه شركات و بيوت و أموال .. بعدها جاء رجل طويل القامة .. أنيق .. صاحب لحية طويلة بيضاء و قال ل جاد : سأخبرك بمكان السّيد ينال .. و سآخذك إليه في الحال .. كان جاد يتبعه و الدهشة و السعادة تسيطر عليه .. و أخيراً سأرى صديقي ينال .. لكن منذ متى أصبحوا يدعونه بالسيد ينال ؟!!   هكذا قال جاد .. بعدها وصلا إلى باب مغلق .. قام الرجل بالاستئذان بعدها فتح الباب .. كانت الغرفة واسعة جداً .. كانت عبارة عن مكتب فخم .. يحتوي أجمل الأثاث .. كانت اللّوحات و التّحف الفنيّة في كل مكان ..  أهلاً .. أهلاً بصديقي الفقير .. هكذا قال ينال .. و قد كان يرتدي بذلة أنيقة تبدو أنها جديدة .. و كان بمعصمه ساعة من نوع فاخر .. و كانت تفوح منه روائح أغلى أنواع العطور .. و كان مكتبه يحتوي على كثير من الملفات و الأموال .. عندها دُهش جاد و قال  : ما هذا ؟! من أين لك كل هذا ؟! عندها دخل عليهما السيد فكري و قال : هذا بسبب تفكيره  الذي أعجبني .. و لأنه نفّذ ما طلبته منه .. ألم أطلب منك مراراً و تكراراً أن تأتي لكي تستلم الحسابات في إحدى شركاتي و كنتَ دائماً ترفض .. بحجّة حبك البليد لعملك الذي لا يروي ظمأ عصفور ولا يطعم قطة !! عندها قال ينال : نعم يا صديقي . عندما سمعت كلام السيد فكري كافئني و أغدق علي بالأموال .. و أصبحت السيد ينال .. صديق السيد فكري .. و لديّ قصر مشابه له أيضاً .. يحتوي على الأجواء الدافئة كذلك ! ..

عدها شعر جاد أنّه يحلم .. طلب ينال من جاد أن ينضم إليهما .. و أغراه بالمال الكثير و بأنه سيصبح السّيد جاد .. رفض جاد كثيراً .. و قال: لن أستغني عن مبادئي .. و ما زلت أكرّر : ليس بالضّرورة أن يغيّر المرء حياته بدون سبب مهم .. و عليه أن يكون قنوعاً بنصيبه .. و أن يستمر في عمله الذي يحبّه مهما كان .. بعدها تذكر جاد أنه أصبح مشرداً بلا مأوى أو عمل ..  و قال : حسناً .. من باب الفضول .. أخبِرْني ما الذي عليّ فعله لكي أصبح السيد جاد ؟! عندها ابتسم ينال و قال : أريد أن تصبح الحرارة مرتفعة جداً في ذلك المصرف الذي تعمل فيه حتى يذوب كل شيء  .. استغرب جاد كثيراً من ذلك الطلب .. ماذا تقصد ؟! كيف ذلك ؟ أتريد أن أحرقه ؟!   .. ابتسم ينال مرة أخرى . و قال : أحسنت يا جاد . ما زلتَ لبيباً كما عهدتك .. عندها انتفض جاد بشدّة و قال : أ مجنونٌ أنت ؟! كيف تطلب منّي ذلك الطلب ؟!  هذا شيء لا يُعقل .. كما أن المصرف ليس ملكي حتى أتصرف فيه .. إنه للسيد فكري .. هكذا قرأت في ذلك الملف الأسود الذي وجدته .. عندها ضحك السيد فكري ضحكة صفراء  و قال : أنا من أرسل اليك ذلك الملف .. حتى يرق قلبك و تحزن على حالي .. المصرف ليس ملكي .. لكن هذا القصر الفخم لي .. و أخبَره أنّه كان يعمل فيه خادم فترة طويلة  و بعدها من شدّة الحقد و الغيرة و الكره فكّر في أحد الأيام بأن أصحاب القصر ليسوا أفضل منه .. عندها ظَهر له كائن غريب  شكله مخيف ك الأشباح جاء إليه  و نصحه و أخبره بأنّ أفضل طريقة للحصول على القصر هو أن يحرقه و بعدها سيكون القصر ملكه  و سيعود جميلاً ك السابق بعد أن يُلقي عليه بعض التعويذات .. و أخبره أيضاً أنّ جميع الأشخاص في هذه القاعة قد نفّذوا نفس الطلب و أحرق كلّ واحد منهم شيئاً ..  كان جاد في ذهول تام .. و أيقن أنّ الحارس كان كاذباً في كلّ ما قاله .. ف القصر في الأصل لم يكن للسيد فكري كما ادّعى .. بات جاد  في حالة شبيهة بالهذيان  .. و ما زاد دهشته هو أن  ينال أخبره أنه قام بحرق مبنى الصّحيفة التي كان يعمل بها حتى يصبح السيد ينال كما طلب منه السيد فكري ذلك !!

أراد جاد الهروب من القصر لكن ازدحام الأشخاص منعه من ذلك .. أخبره السيد فكري أنه لا مفر .. إمّا أن ينفّذ طلبه و يحرق المصرف و يصبح مثله  أو يقضي عليه  ويتخلّص منه .. رَفَض جاد مرة تلو الأخرى .. شجّعه ينال على القبول بالطلب .. تذكّر جاد أنه بلا مأوى أو عمل .. زاد حقده على مدير المصرف الذي قام بالاستغناء عن خدماته .. اضطرّ للموافقة .. ذهب معه ينال ليراقبه .. دخل جاد إلى المصرف .. أخبره زملاءه أنّ المدير كان يبحث عن عنوان سكنه .. رآه المدير .. رحّب به .. أخبره أنه يعتذر عما فعله .. و أنه عَلم بما مرّ به  .. و أبلغه أنه سيعيده إلى عمله .. و سيصرف له مكافأة .. عندها ابتسم جاد و قال في عقله : شكراً حضرة المدير لكن ذلك جاء بعد فوات الأمان و غادر إلى مكتبه .. ساعده ينال .. بطريقة سحرية قاما بحرق المصرف .. غادرا الشارع ..  تذكّر جاد أنّه تعرّف من مدّة على شخص يعمل نادلاً في أحد المطاعم الفخمة .. ذهبا لزيارته .. كان منشغلاً بالعمل .. دعاهما زميله إلى انتظاره عند إحدى الطاولات   . قال جاد :  شكراً لك  .. أخبِر عمر و أنت أيضاً اسمع إن أردت  أخبره أن السّيد جاد و صديقه السّيد ينال يودّان رؤيته و لديهما فرصة ذهبيّة لكي يصبح غنيّاً و يناديه الجميع بالسّيد عمر .. و أن يجهّز نفسه لزيادة درجات الحرارة في هذا المطعم و لِكي يشمّ رائحة الشّواء بكثرة !!

⁦✍️⁩ فادي زهران

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رماد الحناجر /بقلم رحاب كنعان

بيروت تحت الركام/ بقلم زنار عزم

اه يا انت /بقلم وائل زبلح